الأربعاء، 28 أكتوبر 2009

مع الشاعر الكبير الشيخ إبراهيم جوب المشعري في مطلع قصيدته*


بقلم / سام بوسو عبد الرحمن

***
يقول الشيخ إبراهيم جوب في مطلع قصيدة يمدح بها الشيخ أحمد بامبا:

مَا لِي لِبَغْدَادَ شوقٌ لَا وَلَا "فَــــاسِ"
إِنِّي برُؤْيَا "جُلُفْ" قدْ بعْتُ أنفاسي



في هذا البيت المفعم بالمعاني، يرمز الشاعر إلى تحوُّل عاطفي وروحي عميق هزَّ كيانه هزًّا قويا، بسبب انتقاله من الانتماءات التقليدية وانضمامه إلى دعوة جديدة قريبة منه، دعوة الشيخ أحمد بامبا التجديدية. فأكد في البيت قناعته واكتفاءه بهذا الارتباط الروحي الجديد بالشيخ الخديم ـ رضي الله عنه ـ وعدم حنينه أو تطلُّعه إلى ارتباطات أخرى.

وقد وظَّف الشاعرُ براعتَه الأدبيةَ في تصوير هذا المعنى بشكل رمزي لطيف ووجيز، حيث نفى اشتياقَه إلى "بغداد" موطن الشيخ عبد القادر الجيلاني أو إلى "فاس" مزار الشيخ أحمد التيجاني ـ رضي الله عنهما ـ ، ولا غرو في ذلك! فقد أصبح بقلبه وقالبه مبايعا ومنقادا لنزيل "جُلُفْ2" الشيخ أحمد بامبا مؤسس الطريقة المريدية.

وفي الحقيقة، تمكَّن شاعرُنا بدقة تعبيره من إبراز معانيه بقوةٍ وحزمٍ، ولم تَطْغَ هذه القوةُ ولا هذا الحزمُ على رقة المشاعر وجمالها: فتكرارُ أداةِ النفي (ما، لا ولا) يعكسُ حرصَه على توكيد النفي وعدم تردده في الموقف، كما يتجلى صدقُ مبايعته في استعماله أداة التحقيق ( قد). وفي مقابلته بين نفي "شوقه" لبغداد أو لفاس، من جهة، وبين بيع "أنفاسه"، من جهة أخرى، إيحاءٌ إلى عدم معاناته لأي صراع نفسي أو عاطفي: فإنه بكل كيانه ووجدانه غارق في لج بحر الأنوار... فكيف يتشوق إلى ضوء النجوم بعد بزوغ الشمس!!

فبيت الشاعر، مع قلة ألفاظه، يُوحي إلى معانيَ أخرى عميقةٍ: ففي تعبيره ببيع الأنفاس إشارةٌ إلى حقيقة المبايعة الصوفية التي تقتضي الاستسلام والانقياد بين يدي الشيخ المربي؛ كما أنَّ في ذكر الأماكن، بغداد، فاس، جُلُفْ على هذا الترتيب، وإسنادَ الشوق إلى الأولين والرؤيا إلى الأخير تلميحاً إلى بُعدهما مكانا وزمانا وقربِ الأخير في المسافتين، لأن الشوق للبعيد والرؤيا للقريب؛ فكأنَّ صاحبَنا يريدُ إعطاءَ تبرير منطقي ملموسٍ لانتمائه الجديد: فما صدر عن مشاهدة "رؤيا" أقوى بكثير مما صدر عن مجرد الـ"شوق".

إن البيت يرمز ـ في التحليل الأخير ـ إلى حقيقة الجدلية والأزمة الروحيتين المتمخضتين عن تزعزع المسلمات واهتزاز المرتكزات الدينية والفكرية السائدة في ذلك العصر بسبب ولادة الحركة الإصلاحية المعروفة بالمريدية، في الوقت الذي كانت المدرستان القادرية والتيجانية تتقاسمان فيه السواد الأعظم من العلماء والمتدينين في أفريقيا الغربية.

وكأنَّ شاعرنا يمثُّل الفرقة المثقفة التي تخلت عن انتمائها القديم وانضمت إلى الدعوة الخديمية قلبا وقالبا، دون مواربة، وخدمتها خدمة جليلة.

وأخيرا، وضع الشيخ إبراهيم المشعري، بهذا البيت الرائع البليغ، حلا حاسما ونهائيا لذلك الصراع الداخلي الذي كان يساور العديد من النخبة المثقفة وعلماء الدين في تلك الفترة المضطربة دينيا واجتماعيا وسياسيا.

هناك تعليق واحد:

  1. السلام عليكم ياأستاذ شام أيدك الله ونصره فإن هذاالتحليل شاف وشامل وكاشف للدلالات والفوائد القيمة التي تضمنه البيت الرابع
    من تلميذكم عبد الله جوب

    ردحذف

إشكاليات في بعض المفاهيم المريدية… إصدارٌ جديد للدكتور خادم سِيلا

تمثِّل المفاهيمُ أدواتٍ ضروريةً لبناء المعارف وتوجيهِ التفكير، ولذلك تؤثر تأثيراً بالغا في مواقف الناس وسلوكياتهم. وهي تتشكَّل ضمن سياقات مع...